اخبار تركيا

السوريون في تركيا.. من أطباء ومهندسين إلى (صنايعية) بحثًا عن لقمة العيش

الحرب هي من دفعت مهندس الاتصالات محمد يعقوب إلى النزوح من بلده سوريا باتجاه تركيا، ظنًّا منه أنها مكان مناسب لاستثمار كفاءته وبلورة خبراته، لكنه تفاجأ عندما وصل بأنه لن يستطع فعل أي شيء مما قد خطط له؛ بل وحتى لن يستطيع العيش أبدًا ما لم يعمل.

تحت ضغط الحاجة، أصبح محمد يعقوب عاملًا في ورشة نجارة بمدينة مرسين التركية، ومن ثم مع سوء ظروف العمل ومردوده المادي البخس، بالإضافة لنصائح أصدقائه قرر أن يسافر إلى مدينة إسطنبول مدينة المال والأعمال، والعاصمة الاقتصادية لتركيا، والنسخة المصغرة منها للبحث عن عمل أفضل بمرتبٍ ملائم.

لم يكن محمد في إسطنبول أوفر حظًّا من مرسين، فقد كان الفشل نديم كل محاولات البحث لأسباب مختلفة، ربما أبرزها خوف أرباب العمل من تفتيش البلدية التركية عن العمال غير النظاميين، مما دفعه فيما بعد للعمل بغسيل الصحون في مطعمٍ بسيط في منطقة تقسيم بإسطنبول؛ ليجمع ثمن تذكرة العودة إلى سوريا.

كفاءات ضائعة

من مقاعد الدراسة ومدرجات الجامعة إلى خلف آلات المصانع ورشات البناء والخياطة، هذا هو حال عمرو طه أحد طلاب كليّة الهندسة المدنية الذي تشرّد مع آلاف الكفاءات السوريين، إذ اضطر لترك جامعته بسبب ورود اسمه في لوائح المطلوبين لأحد أفرع النظام السوري بدمشق، لجأ إلى تركيا راسمًا مستقبلًا زاهرًا كان يُفترض أن يتحقق لولا أنه لاجئ، بحث عن فرص دراسية كثيرة ولم يوفق في أي منها.

في نهاية المطاف وجد نفسه مضطرًا للعمل في ورشة للخياطة برتبة (أورتاجي)؛ ليبتعد كل البعد عن الاختصاص والحلم الذي كان رسمه مسبقًا.

تنقل عمرو بعدها في أعمال كثيرة، ولكن جميعها لا تمت له بِصلة، عمرو الآن يعمل في مغسلة سيارات، وينتظر على أمل أن ينجح في الحصول على منحة دراسية يومًا ما؛ ليزاول ما كان بدأه مسبقًا من مشوار النجاح.

حقوق الأطفال المهدورة

هدر الكفاءات ليس هو الشيء الوحيد المفجع ضمن سوق العمل التركية، بل كان لتشغيل القاصرين دور مهم وملفت ضمن شرائح العمال.

عقبة شاويش، طفل بعمر خمسة عشر ربيعًا يقول لـ«ساسة بوست»: «أعمل منذ ثمانية أشهر في ورشة للأعمال الكهربائية لمدة ١٢ ساعة يوميًّا من دون راحة، وجدت نفسي مضطرًا للعمل بجانب إخوتي لكي أعيل أسرتي التي فقدنا ربّها جراء الحرب الدائرة في سوريا».

الحال هذه قادت عقبة إلى جحيم ورشات العمل بدلًا من مقاعد المدرسة، وليحمل عدة العمل بدلًا من الكتب والكراسات والحياة الطبيعية لجميع من هم بعمره، وقد أظهر تحقيق لشبكة البي بي سي البريطانية أن الأطفال السوريين يعملون لساعات طويلة في مصانع للنسيج بتركيا، لصالح شركات عالمية وعلامات تجارية كبرى، والتي تستفيد من عمالة اللاجئين والأطفال، وأن المشاهد التي رأوها تبدو كما لو أنها من روايات تشارلز ديكنز المأساوية.

«إن حصل أي مكروه لأحد السوريين، يرمون به بعيدًا كقطعة من القماش».

*تصريح أحد اللاجئين لفريق بانوراما

وتشير التقديرات إلى أن نحو 400 ألف من الأطفال السوريين في تركيا يعملون، معظمهم في قطاع صناعة الملابس.

احتيال

«العامل السوري الذي يعمل بشكل غير قانوني لا يحق له أن يشتكي إلى الشرطة التركية من أجل تحصيل حقّه، إذا ما تم الاحتيال عليه من أحد ما»، بهذه الكلمات يبدأ خليل عثمان حديثه، وهو أحد العمال السوريين الذين تم الاحتيال عليهم من قبل رب عمل تركي؛ إذ يقول : «منذ أن خرجت من حي القابون (أحد أحياء دمشق العاصمة السورية)، مضيت إلى تركيا باحثًا عن عمل، وكان في جيبي ما يغطي مصاريفي مدة أسابيع لا أكثر، بعد جهد كبير في البحث وجدت عملًا في مجال التهوية المركزية، عملت مدة خمسة وعشرين يومًا ثم أخبرني ربّ العمل أن أبقى في البيت، وأنه سيتصل بي عندما تأتينا ورشات جديدة، لكنه لم يعاود الاتصال بي أبدًا بعدها، ورفض إعطائي أجرى عن الأيام التي مضت».

ويضيف: «تبيّن لاحقًا أني لست الوحيد الذي تم الاحتيال عليه، بل جميع العمال السابقين في الورشة، فكّرنا أن نشتكي عليه، ولكن لا يوجد لدينا أي وثيقة نظامية بما فيها بطاقة الإقامة المؤقتة (الكيملك)».

إن قصص هؤلاء الشبان ليست غريبةً عن أذن كل من اتخذ من تركيا ملاذًا له، إذ لم تحيّد أي فئة من فئات الشعب السوري من استنزاف الحرب الطاحنة على أرضه، ومن بين كل الخسارات تبقى خسارة العقول والخبرات هي الأخطر على مستقبل البلاد، إذ إن المؤسسات العلمية التركية لم تستطع أن تحتوي من الكفاءات السورية إلا على الجزء اليسير، لكن الغالبية العظمى منهم وجد نفسه مضطرًا تحت ظرف المعيشة إلى العمل بأية ورشة أو مصنع مهما كان.

صعوبة الاندماج بسوق العمل

واجهت الفئات العاملة من السوريين عقبات وصعوبات جمّة، أهمها عقبة اللغة التركية، وثانيها هو التمييز الذي يصفه البعض بالعنصري بين العمال السوريين والأتراك؛ إذ يعاني السوريون من زهد الأجور التي يتقاضونها كل شهر، تتراوح بين 500 ليرة تركية إلى 1500 ليرة تركية، في حين أن مرتب المقابل التركي هو ٢٥٠٠ ليرة تركية، فضلًا عن بعض الامتيازات الأخرى، ولكن من أكثر الصعوبات النفسية التي واجهت أصحاب الكفاءات وشريحة المثقفين من العمال، هي اختلاف بيئة العمل بشكل جذري، فضلًا عن سوء التعامل أحيانًا من جانب الأتراك لهم.

يقولون: «بعد أن كنا على وشك أن نصبح ذوي شأن يأتي إلينا الآن أصغر عامل تركي مرتبةً وسنًّا ليأمرنا بفظاظة ويقسو علينا كيفما يريد».

وهذا التغيير الجذري عمد ببعض الكفاءات إلى الرجوع لجحيم الحرب وشبح الموت؛ إلى الجنوب اتجاه سوريا، وبعضهم الآخر خاض غمار البحر هاربًا إلى الدول الإسكندنافية وأوروبا أملًا في حياة أقل بؤسًا.

القوانين التركية

في شهر أغسطس (آب) من العام الفائت، قال وزير العمل والضمان الاجتماعي التركي فاروق جليك، إن اللاجئين السوريين في تركيا لن يحصلوا على تصاريح عمل خاصة، مضيفًا أن ذلك سيكون بمثابة ظلم للأتراك العاطلين عن العمل ويبحثون عن وظيفة.

وأضاف حينها أنه لا يمكن أن يكون هناك إجراء عام يقدم للسوريين تصاريح عمل؛ لأن تركيا تملك قوة العمل الخاصة بها، وإنها تحاول تعليم وتدريب العاطلين عن العمل لديها حتى تمكنهم من إيجاد وظائف في تركيا.

وكان جليك نفسه قد صرّح في أوائل السنة الفائتة: لا يمكن أن يتجاوز عدد العمال السوريين في أي ورشة عمل نسبة ١٠% من إجمالي عدد العمال، أما الحد الأدنى للرواتب فقد تم تحديده بـ ٨٦٤ ليرة تركية.

في المقابل ذكرت وكالة رويترز في تقرير صدر لها العام الفائت، أن أرباب العمل الأتراك يفضلون تشغيل العمال السوريين بسبب استفادتهم منهم، خاصة أن اليد العاملة السورية رخيصة وغير قانونية ولا تتطلب تأمينًا ولا فرض حد أدنى للأجور، فيما لا يخشى العديد من أرباب العمل الأتراك فرض غرامة عليهم بسبب تشغيلهم لعمال بشكل غير قانوني، معتبرين أن الكل يعرف وإن طبق ذلك سيبقى العامل السوري بلا عمل.

وحسب ما ذكرته الوكالة على لسان المحامية التركية بيكجي، فإن هناك ستة آلاف عامل سوري فقط – من أصل 3 ملايين لاجئ– يعملون بشكل قانوني، ولديهم تأشيرات قبل الحرب، ولديهم الآن تراخيص عمل.

من جانب آخر أظهرت دراسة مشتركة أعدها اتحاد جمعيات أصحاب الأعمال التركي، ومركز أبحاث السياسات والهجرة في جامعة هاجه تبه في أنقرة، أن ظروف عمل اللاجئين السوريين قد تتدهور أكثر إذا لم تتخذ إجراءات ملموسة ودائمة بشأن أكثر من ٣٠٠ ألف عامل سوري يعملون دون تسجيل، فقد شملت الدراسة، التي استمرت نحو خمسة أشهر، ١٨ ولاية تركية، وارتأت الدراسة في النهاية أن قضية اللاجئين السوريين في تركيا تجاوزت الحد الذي يمكن من خلاله التعامل معها بإجراءات طارئة عبر سياسات الإغاثة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى